البحث التربوي و
سؤال الجدوى
ذ.حميد بن خيبش
يُعد
البحث التربوي أحد الادوات الهامة التي لا غنى عنها لمواجهة المطالب المتجددة
لمنظومة التعليم , سواء من حيث تقديم معالجة علمية موضوعية للمشكلات و القضايا , أو من حيث صوغ الحلول و
القرارات التي يقود تبنيها نحو تطوير الأداء التربوي عموما , و ضمان القوة و
الفاعلية للمؤسسة التعليمية في ظل عالم ينحو بقوة نحو الإبداع ,و تصنيع المعرفة باعتبارها وقود
النهضة الحديثة .
فالمنظومة
التعليمية في أي بلد لا يمكنها أن تستقيم و تنجح في أداء دورها كقاطرة للتنمية ,
وركيزة أساسية في البناءالحضاري إلا إذا تمتع البحث التربوي بسلطة القرار في تدبير
وتوجيه السياسة التعليمية , من خلال مراجعة المناهج و البرامج , و تقويم الكفايات وطرائق التدريس , ورصد العوائق و
الإكراهات التي تحد من فاعلية المخططات و
المشاريع التربوية , سواء كانت هذه الإكراهات داخلية متولدة عن خلل في تنزيل
التصورات , أو خارجية منبثقة عن تفاعل المؤسسة مع محيطها الاجتماعي و الاقتصادي .
و
بالنظر لما تعانيه المدرسة من تراجع في أدوراها , وعجز عن الاستجابة للاقبال
المتزايد على التعليم , و بطء شديد في مسايرة التطور التكنولوجي المُذهل , فإن
البحث التربوي يغدو مطلبا اجتماعيا لمواكبة الحاضر . و لن يتأتى ذلك إلا بالحد من مبادرات ملء الفراغ التربوي باستيراد مخططات ونظريات منزوعة من سياق اجتماعي
وفكري يبلغ حد التصادم مع واقعنا .. وقيمنا ..ومعتقداتنا !
إلا
أن الرجوع إلى ما تم تداوله في عدد من الأبحاث و الدراسات حول الوضع الراهن للبحث التربوي يُشعرك أنك أمام
مُعضلة يتعذر حلها !
فخطاب الإكراهات و المعيقات يحملنا على الجزم بأنه لم يغادر بعدُ خانة الرفاهية
الأكاديمية !
و أن هم الباحث هو الحصول على مركز اجتماعي , أو نيل درجة علمية !
يحدد الدكتور حسن شحاتة (1) أسباب
الأزمة القائمة في البحث التربوي كما يلي :
-
انطلاقا من كون مادة البحث
التربوي – وهي الإنسان- مادة معقدة فإن الباحث يجد نفسه أمام متغيرات كثيرة في العملية التعليمية يصعب ضبطها عكس الباحث في
مجال العلوم الطبيعية مثلا .
-
قصورعلم التربية على
المستوى النظري فيما يتعلق بإيجاد حلول لعدد من القضايا التربوية , ومرد ذلك إلى التقدم البطيء في أدوات القياس بسبب تعقد
المشكلات التربوية .
-
اعتماد القيادات التعليمية
على خبراتها و اجتهاداتها التي تفتقد للدقة و الموضوعية و تميل في أحيان كثيرة إلى
تغليب الهوى السياسي لكسب تأييد وهمي , وهو ما يفضي إلى تبني حلول هشة , و إصلاح مرتبك يزيد الوضع
تأزما .
-
مشكلة المصطلح التربوي التي
لازالت تُعيق التوصل إلى وحدة المدلول , وبالتالي الحد من إمكانية التعاون المشترك
و تبادل الخبرات .
-
كبح جماح التفكير العلمي
منهجا و أسلوبا بسبب سيادة التعليم " البنكي
" و المعرفة السلطوية اليقينية التي لا تعترف بقواعد المنهج العلمي
الحديث من احتمالية و نسبية و تعددية .
-
النقص الحاصل في المخصصات
المالية و المكافآت المرصودة للباحثين و المراجع العلمية .
-
حشو البحوث بالمعطيات
الإحصائية و الأرقام لإضفاء العلمية و
الموضوعية دون التنبه إلى كونها مجرد حقائق جامدة صماء تستلزم حسا بحثيا يُضفي
عليها التفسيرات النفسية و التربوية و الخلقية اللازمة من واقع الخبرة المهنية ,
مما يقضي على روح البحث , وشخصية الباحث !
-
عدم توافر خبرة تدريسية لدى
الباحث التربوي مما يدفعه إلى الخوض في أفكار و تنظيمات لا تلائم الواقع .وهو ما
يُفقد الممارسين الميدانيين ثقتهم في نتائج هذه البحوث .
-
أخطاء تقنية متعلقة بالخلل
في التحليلات الاحصائية , وغياب التماسك الناتج عن الترجمة الحرفية المُخلة بخصائص
التراكيب العربية .
أما في دراسة أعدتها المنظمة العربية للتربية و العلوم و
الثقافة "ألكسو" فقد وردت المعيقات في صيغة مآخذ انصبت بالأساس حول
الباحث التربوي , ولعل أهمها :
- الافتقار
للأصالة و الإبداع وذلك من خلال تكرار بحوث الغير , و غلبة البحوث الوصفية و
التاريخية على
البحوث التطبيقية , وعدم
ارتباط البحث بالواقع المحلي .
- عدم التعامل مع البحث التربوي كفرع معرفي خاص يحمل دينامية نموه , فصارت جل رسائل
الماجستير و الدكتوراه مجرد استعادة و
تعريب للبحوث الغربية .
-
التركيز على حل مشكلات
النظام التعليمي و إهمال المشكلات الناجمة عن ارتباطه بالمجتمع.
-
كثرة الأخطاء في بناء البحوث
و تنفيذها , و المشكلات الفنية في تصميم البحوث و إجراء المقارنات و البيانات .
-
الافتقار إلى سياسة و اضحة
تستند إليها الجامعات و المراكز البحثية
في ضبط أولويات البحوث بالرجوع إلى حاجيات المجتمع و متطلبات المشاريع التنموية .
من خلال ما ذُكر يتضح لنا أن سؤال الجدوى يطرح نفسه
بقوة في غياب إرادة جادة تُمكن البحث
التربوي من استعادة موقعه في قيادة قاطرة التجديدالتربوي . إذ لازالت أغلب
التوصيات و القرارات حبيسة الرفوف , ولم تنكمش بعدُ المسافة بين خطاب واعد , وواقع
صادم تكشف عنه الإحصائيات . فنسبة الانفاق على البحوث العلمية لا تتجاوز 0.116 % من ميزانية
الدول العربية قاطبة , أما عددالبحوث التي تجري في الوطن العربي فلا تعادل نظيرتها
في جامعة أمريكية واحدة كجامعة هارفارد !
لذا من المفارق حقا أن يغص الخطاب التربوي الحديث
بشعارات من قبيل : ثقافة الإبداع لا ثقافة الإيداع , و الانفتاح الثقافي ,
والتعليم للحياة , وبناء مجتمع المعرفة , في الوقت الذي تميل فيه السلطة التربوية
إلى تفضيل المنتوج المستورد , وتمكين المقاولة البيداغوجية الأجنبية من فرصة تجريب
وصفاتها المريبة في حقل يُفترض أنه خزان الهوية و القيم , ودعامة البناء الحضاري !
إن أي حل لمعضلة البحث التربوي لا يمكن أن يتحقق قبل
تشكل قناعة راسخة لدى القيادات التربوية بجدواه و فاعليته , والإيمان به كمدخل
رئيسي لأي إصلاح تربوي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : د.حسن شحاتة . البحوث العلمية و التربوية
بين النظرية و التطبيق . مكتبة الدار العربية للكتاب ط 1 يناير 2001
0 التعليقات :
إرسال تعليق