أطفالنا و الرعاية النفسية
ذ.حميد بن خيبش
إذا كان انتظار مولود حدثا تُجمع الإنسانية على روعته , فإن مراسيم
استقباله تعكس إلى حد بعيد طبيعة الوعي الذي يحكم بيئته التربوية ونوعية السلوك و
الاتجاهات التي ستحدد شخصيته !
ولعل ما يميز الأسرة العربية هو العناية المفرطة
بالترتيبات المادية من تغذية و تطبيب مع تقصيرملحوظ في الترتيبات المعنوية التي
تحقق للطفل تكيفا نفسيا سليما مع محيطه.
فالحاجة إلى الحب , و
الأمن, والشعور بالانتماء للدين ثم
للجماعة هي حاجات فطرية لدى الطفل , و الاستجابة لها من لدن الأسرة و المدرسة
ضرورة حيوية لاكتمال شخصيته والوصول بها إلى حالة من الثبات الانفعالي و
السلوكي.غير أن شيوع المفاهيم الخاطئة حول الصحة النفسية ,وغياب استراتيجية واضحة
لإدماج مباديء الرعاية النفسية في خطط التنمية الاجتماعية أسهم بشكل واضح في
ازدياد الاضطرابات النفسية , وتراجع أدوار الأسرة و المدرسة في تحقيق تنشئة سليمة
.
ينص إعلان " ألما
آتا" الذي أصدرته منظمة الصحة العالمية سنة 1978 على أن الصحة النفسية هي
"حالة من العافية تسمح للفرد باستخدام كافة طاقاته وقدراته ,و التكيف مع ضغوط
الحياة و العمل المنتج و المثمر, و المساهمة البناءة في مجتمعه " وهذا
التعريف ينطوي على تصور مغاير يتجاوز المقاربة العلاجية صوب الاهتمام باللياقة
النفسية للفرد و تحسين نوعية الحياة . كما يُثبت أن المبرر الذي تسوقه السلطات
التربوية و الصحية في بلداننا حول قلة عدد الأخصائيين النفسيين , وانصراف جهودهم
للعناية بالحالات النفسية الحادة هو مبرر يُمكن تجاوزه باعتماد مقاربة تشاركية
فاعلة ,تؤهل كلا من الأسرة و المدرسة و
المؤسسة الإعلامية للإسهام الجاد في توفير بيئة تربوية سليمة.
* * *
يُهيمن داخل الأسرة
العربية نمط التربية التقليدية الذي يُنظر من خلاله للطفل على أنه "رجل
صغير" يتوجب عليه أن يستوعب تعاليم الكبار و توجيهاتهم , ويتقيد بها دون
الالتفات إلى الحاجات النفسية التي ينبغي توفيرها له .
فالطفل قبل أن يتشرب
القيم و العادات السلوكية و الاجتماعية , لا بد أن يشعر بالأمن العاطفي أي بكونه
محبوبا ومرغوبا فيه داخل الأسرة . كما يحتاج إلى الإحساس بالثقة و الاطمئنان , و
الانتماء للأسرة و المجتمع .فطبيعة التفاعلات الأسرية يكون لها دور كبير في تشكيل
حياته , أما المباديء التي يجري تلقينها له , فيُلاحظ أنها في الغالب مزيج من
القيم الأخلاقية و الدينية , و العادات السلوكية تتخللها رواسب من التفكير الخرافي
الذي يزعزع ثقة الطفل بنفسه ,ويُربك تفكيره مثل تخويفه بالأشباح و العفاريت حتى
ينام أو يُقلع عن سلوك غير مهذب ! فينشأ الطفل داخل إطار حياتي يتسم بالإذعان ,
والأوهام المقيدة للإبداع و التساؤل الحر .
لذا فتوفير شروط
الرعاية النفسية السليمة يقتضي أولا تغيير الثقافة السائدة داخل الأسرة , و حملها
على التعامل مع الطفل باعتباره "كائنا منطقيا يستجيب إذا لقي الاحترام و عومل
على مستوى إنسانيته " (1)
وهذا ما تضطلع
"التربية الوالدية" بتحقيقه في الآونة الأخيرة من خلال اعتماد برامج
تكوين للوالدين , وترسيخ علاقة أسرية أكثر انضباطا و احتكاما للمرجعية السيكولوجية
و التربوية .
* * *
ومع انتقال الطفل من
الأسرة إلى فضاء المدرسة تبدأ علاقاته الاجتماعية بالتوسع من خلال تفاعله اليومي
مع زملائه و مدرسيه . وتنضاف خبرات وقيم جديدة إلى رصيده الفكري و الوجداني .و
بالتالي فالمناخ المدرسي العام له دور كبير في تحقيق التوازن النفسي للطفل ,
وتحرير طاقته للإبداع و التطوير شريطة أن يحكم هذا المناخ تصور تربوي متكامل يعزز
الاتجاهات و القيم التي بذرتها الأسرة ,ويُخلصها من رواسب الأوهام و المعيش
الخرافي .
وحتى يكون للفضاء
المدرسي دوره الفاعل في التربية النفسية , فإنه مدعو لتأهيل مكوناته , وتجديد
منطلقاته و تصوراته بما يتلاءم وما توصلت إليه الدراسات النفسية و التربوية من
حقائق و معطيات هامة .ونقصد هنا بالمكونات : المناهج الدراسي , و نمط الإدارة
المدرسية , و طبيعة العلاقات المهنية و الإنسانية في البيئة المدرسية , وشخصية
المدرس ومؤهلاته التربوية .
ومن المؤلم حقا أن
واقعنا التعليمي لا زال يرواح مكانه رغم الحراك التربوي الهائل الذي شهده المجتمع
المعاصر منذ مطلع القرن الماضي . و لازال الطفل مجرد "آنية فارغة يصب فيه
المعلم كلماته , وكلما كان المعلم قادرا على القيام بهذه المهمة كان ذلك دليلا على
كفاءته , وكلما كانت الأواني قادرة على الامتلاء كان ذلك دليلا على امتياز الطلاب
"(2) .
وفي ظل هيمنة المفهوم "البنكي"
للتعليم و الذي تحكمه رؤية سلبية لدور الطفل لا يمكننا بالتأكيد أن نتوقع من
المدرسة ميلا لتوفير شروط التربية النفسية ! إذ يستلزم الأمر " ثورة "
تربوية تحرر المدرسة من أبوية النظام التعليمي , وتمكن المدرس من إعداد مهني
متكامل يؤهله لإجادة التعامل التربوي مع الطفل , كما تُحدث تطويرا نوعيا للمنهاج
الدراسي يُنمي خبرات الطفل و حسه النقدي , و يمنحه الإحساس بالأمن و تقدير الذات
.
* * *
هل يُمكن الحديث عن دور
للإعلام في الرعاية النفسية للطفل في غياب استراتيجية واضحة لدى الوزارة الوصية ؟
إن ما كشفت عنه المذكرة
التي وجهتها منظمة الصحة العالمية إلى وسائل الإعلام في السابع من أكتوبر 2011
يُسلط الضوء على فشل السياسة الصحية في توفير أدنى متطلبات الرعاية النفسية
للأفراد . فمن مجموع موارد القطاع الصحي , لا يُخصص لخدمات الصحة النفسية سوى %2 ,
أما متوسط الإنفاق فلا يتجاوز 0.25 دولار لفرد سنويا ! (3)
بالرغم من ذلك فإن
الرهان على دور وسائل الإعلام في تكوين مواقف وسلوكيات اجتماعية إيجابية , وترسيخ
القناعة بضرورة العناية بالصحة النفسية للطفل يظل قائما , خصوصا في ظل الثورة
المعلوماتية التي تشهدها المجتمعات المعاصرة , و الانتشار الواسع لوسائل الاتصال .
و إذ نُثمن الاهتمام
الذي تحظى به قضايا الاسرة و الطفولة , و تخصيص حيز من البث الإعلامي لتدارس سبل
مواجهة الاضطرابات النفسية الشائعة , إلا أن الضغوط التي تواجهها الأسرة العربية
في الوقت الراهن جراء تآكل البنى الاجتماعية و الشعور بالقلق المتزايد حيال
المستقبل يفرض مزيدا من العناية بضرورة رفع مستوى الوعي النفسي , و تثبيت القيم و
المعايير الدينية و الاجتماعية التي يستمد منها المجتمع مُثله العليا . وذلك من
خلال الاهتمام بالإرشاد النفسي و تنظيم حملات إعلامية لإحداث تغيير في العوامل الاقتصادية
و الاجتماعية المولدة لأشكال الانحراف النفسي .
و بالنظر لتزايد أعداد
مستخدمي الانترنيت فإن توفير المعلومات الخاصة بالصحة النفسية , وتيسير الحصول على
الاستشارات البسيطة سيؤدي حتما إلى تغيير المواقف و الاعتقادات الخاطئة بشأن
الرعاية النفسية .
إن السنوات الأولى من
حياة الطفل تتسم بقابلية شديدة للتأثر بالخبرات المؤلمة و التجارب الصادمة . وفي
عالم تعصف متغيراته بالتوازن النفسي للفرد فإن بلورة برنامج تكاملي لزيادة الموارد
البشرية و المعرفية العربية حول الصحة النفسية أصبح مطلبا أساسيا لتمكين أجيال
المستقبل من التكيف الإيجابي مع ضغوط الحياة , وكسب رهان العيش فوق ..صفيح
ساخن !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : كلير فهمي . الحب و الصحة
النفسية لأبنائنا .دارالمعارف /القاهرة 1975. ص: 151
(2) : سعيد اسماعيل علي .فلسفات تربوية
معاصرة .سلسلة عالم المعرفة .عدد 198. ص: 174
(3) : موقع منظمة الصحة العالمية.مذكرة
إلى وسائل الإعلام بتاريخ 2011/10/07
0 التعليقات :
إرسال تعليق