مــصـــرع نــمــلــة

السلام عليكم
قـصـة حـدثـت بالـفـعـل .. رائـعـة
د. هشام صقر

كان من فوائد لقائنا في السجن مع بعضنا بعضًا أن ينقل الأخ إلى إخوانه بعضًا مما عنده ويريد أن يفيد إخوانه به، وذلك داخل الزنزانة بعد إغلاقها علينا من الرابعة مساءً إلى الثامنة صباحًا في أحسن الأحوال، وكان موضوع مصرع نملة أحد الموضوعات التي حكاها أحد إخواننا عن قصة قرأها لعالم من علماء السلف، عاشها وكتبها في كتاب له، وقد أعجبتني وأحببت أن أنقلها إليكم كما أتذكرها من رواية أخينا؛ الذي لم يتذكر اسم الكتاب أو العالم، وعلى من يعرف المصدر الأصلي للقصة أن يذكِّرنا به، وجزاه الله خيرًا.
كان هذا العالم جالسًا في بيته فلاحظ أن قطعةً من السكر كبيرة نسبيًّا قد سقطت على الأرض، ثم جاءت نملة ودارت حول قطعة السكر، وحاولت أن تزحزحها لتحملها فلم تنجح إلا في زحزحة بسيطة للغاية، واستمرت المحاولات دون جدوى، ثم انصرفت النملة.
ثم لاحظ أن عددًا من النمل يأتي من بعيد تتقدمه نملة (الراجح أن تكون النملة الأولى)، وقبل اقتراب النمل من قطعة السكر رفع العالم قطعة السكر من على الأرض لينظر ماذا يحدث.
وصل النمل إلى المكان، وظلَّت النملة التي تتقدَّمهم تحوم وتدور حول نفس مكان قطعة السكر، ثم تذهب إلى النمل فيتحرَّك النمل في مساحة صغيرة حول المكان، ثم يعود إلى ما يشبه اجتماعًا، ثم ينصرف النمل تتأخره النملة.
بعد قليل عادت النملة الأولى- غالبًا- تقترب من المكان من بعيد، فوضع لها العالم قطعة السكر في نفس المكان، فلما وصلت إليه كرَّرت ما كان من قبل، فدارت حولها، وحاولت أن تزحزحها ثم انصرفت.
جاء عدد من النمل من بعيد تتقدمه النملة، فرفع العالم قطعة السكر، وتكرَّر ما سبق من حركة للنمل في المكان، ثم ما يشبه اجتماعًا، ثم الانصراف مع تعقُّب النملة لهم.
عادت النملة مرةً أخرى إلى المكان، فلما رآها العالم تأتي من بعيد وضع قطعة السكر مرةً أخرى، فيتكرر الأمر مرةً أخرى: تذهب النملة بعد محاولاتها، وتعود ومعها النمل، فيرفع العالم قطعة السكر، فيتحرك النمل في المساحة المحيطة، ولما لا يجد السكر يُحدث اجتماعًا، ولكن في هذه المرة لا ينفض الاجتماع بالذهاب كالمرتين السابقتين، بل يلتفُّ النمل حول النملة ويتمُّ قتلها وإعدامها ثمَّ حملها والعودة مرةً أخرى.. انتهت القصة.
وقد لفت نظري في القصة أمور:
1- الملاحظة الدقيقة من العالم للنملة وقطعة السكر، ومتابعته المنهحية لهذه التجربة حتى نهايتها مما يفتقده العديد من الدعاة والعاملين للإسلام في عصرنا هذا.
2- كتابته للقصة حتى تكون درسًا لمن يأتي بعده ليستفيد منها؛ مما يبيِّن أهمية التدوين في الملاحظة العلمية، وقياسًا على ذلك الأعمال والخبرات الدعوية والحركية.
3- قطعت النملة المسافات الطويلة، كما قطع النمل مسافات كبيرة، تبحث عن الطعام حتى وجدته، ثم حاولت إنجاز المهمة وحدها فلم تنجح، فاضطرت لطلب العون، ولو بذل أحدنا هذا الجهد في دعوته لتقدمت الدعوة كثيرًا في تحقيق أهدافها، ولكننا نبخل على الدعوة، ونتكاسل، فيحدث ما نراه الآن من قلة الوارد وضعفه.
4- ومن دروس النمل، وهي أمةٌ ذُكرت في القرآن وتوجد فيه سورة باسمها، نلاحظ أن النملة حاولت أداء الواجب المفروض عليها (نقل الطعام- قطعة السكر)، ولما لم تستطع ذهبت للاستعانة بآخرين لتنجح المهمة، بينما نحن بني البشر يستعلي منا الكثير على الاعتراف بعدم القدرة على مهمة معينة، فنصرُّ ونفشل، وذلك في الأعمال الدنيوية (تجارة أو صناعة أو مقاولات...)، أو في الأعمال الدعوية المتنوعة، بينما لو أقرَّ أحدنا بعدم قدرته وطلب الععون ممن يستطيع لنجح العمل وتحققت المهمَّة.
5- عندما جاء النمل المعاون مع النملة في المرة الأولى بحث معها عن قطعة السكر الكبيرة، فلما لم يجدوها يمكننا أن نتخيل أن النمل اجتمع وتمَّ لوم النملة على تضييع وقت المجموع بهذا الشكل، وأنه يجب التدقيق قبل إشغال قطاع من العاملين بمسألة قد تضيِّع أوقاتهم، وهنا نجد مدَّ يد العون، والمحاسبة، والاهتمام بالأوقات والمهام الأخرى للمجموع، مما يفتقده الكثير من البشر، وكذلك عدد من الدعاة والعاملين للإسلام.
6- ويمكننا أن نتخيَّل أنه في المرة الثانية ارتفعت نبرة الاجتماع من اللوم إلى التحذير والإنذار من أن يتكرر مثل هذا الإهمال أو التسرع من قبل النملة، وأن الانصراف كان حازمًا.
7- ونلاحظ أن النملة لم تتوقف عن البحث ثم المحاولة ثم طلب العون في المرتين الثانية والثالثة، على الرغم من حرج موقفها، ولو كانت من البشر لقالت: لن أعمل ولن أبذل، فإنكم لا تصدقونني، ولا تستحقون أن أبذل جهدي معكم، لكنها استمرت في البذل والمحاولة وطلب العون لمصلحة المجموع حتى آخر لحظة، وفي ذلك درس لنا ألا نحبط مما حولنا، وإن شعرنا بالإحباط ألا نتوقف عن العمل والبذل، فإنه لله أولاً وآخرًا، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
8- على الرغم من إعطاء فرصتين للنملة لإثبات صحة موقفها فإن الأمر لا يمكن أن يستمر هكذا، بل تجب وقفة حاسمة، كانت عند أمة النمل- التي تتحرك بغرائزها- قتل هذه النملة وإعدامها، بينما تكون عند الدعاة إلى الله والعاملين للإسلام التحقيق والمحاسبة، ثم اتخاذ قرارات حازمة بعد إعطاء كل الفرص المنطقية الموضوعية الكافية.
إن قصةً صغيرةً بسيطةً مثل هذه تحتوي على العديد من الدروس لبني البشر عامةً، والدعاة والعاملين للإسلام خاصةً، تستصرخنا أن نحيا بعمق مع القصص القرآني وقصص الحديث النبوي الشريف والسيرة المطهرة، فلنشمِّرْ ولنتعلَّمْ ولنصبرْ حتى يفتح الله علينا بالبصيرة النافذة والعمل الصالح.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
-->
ششارك على جوجل بلس

عن tarrbia

أكتب هنا نبذة عنك للتعريف بنفسك.
    تعليقات بلوجر
    تعليقات الفيس بوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق

أقسام المدونة