2011-11-05 01:10
لا يجادل أحد في الوضعية المزرية التي وصلت إليها حالة منظومتنا التعليمية بالمغرب ، والتي أصبحت تشكل أحد الاعطاب الحضارية المزمنة ، وذات الثقل البنيوي العميق ، الذي لا يقتصر على ما هو قطاعي ، بل يشمل كل بنيات المجتمع الاخرى .وقد ساد في الاونة الاخيرة ، خطاب تقنوي ، يستمد جذوره وخلفيته الفكرية ، سواء بوعي أم بدونه ، من المرجعية الليبرالية ، ذات الاصول المحافظة ، التي تمتح من البنوية الوظيفية ، والتي ترى أن كل أزمة تربوية ليست إلا اختلال وظيفي يهم قطاع التعليم ، وللتغلب على مظاهر هذه الازمة ، يمكن التفكير في استراتيجيات تقنوية تنحصر في ما يمس هذا القطاع ، من اختلالات والتي يمكن التغلب عليها ، وفي هذا السياق شكل البرنامج الاستعجالي ، جوابا على ما يشهده القطاع من اختلالات ، بعدما كشف تقريرالمجلس الاعلى للتعليم ( 2008) عن أهم مكامن مظاهر هذه الازمة .
ولعل في التعثر الكبير الذي يعرفه الآن تنزيل هذا المخطط ، خير دليل على المنحى التبسيطي لهكذا تخطيط . لذلك يطرح السؤال بحدة إذا كان المجلس الاعلى للتعليم قد وضع التشخيص الملائم للاعطاب الكبرى لهذه المنظومة ، وبعدما تم الاستعانة بمكتب خبرة دولي لانجاز المخطط الاستعجالي ، فلماذا لا زالت المنظومة تعاني مما تعانيه؟
لا شك أن المنظومة التعليمية تقع في بؤرة الاهتمامات ذات الحيوية في أي مشروع مجتمعي كان ، وتعلمنا دروس التاريخ البعيد والقريب ،أن سر نهضة الامم انطلق من الثورة التعليمية التي خاضتها بكل مسؤولية وأمانة . ولكن هذه النهضة لا يمكنها ان تتحقق بدون رؤية واضحة ، واهداف عملية ، وقبل ذلك وبعده التوفر على مشروع مجتمعي ينتظم فيه الكل ، ويصبح موجها لكافة السياسات والخطط والبرامج والاستراتيجيات .فهل يمكن اعتبار اللحظة الحالية والتي يتم فيها تقديم البرامج الحزبية مرحلة فاصلة في بلورة هذا المشروع؟
يصعب تقديم الاجابة عن مثل هذا الاشكال، نظرا لانه لا توجد بين أيدينا لحد الساعة كل البرامج الانتخابية للاحزاب، لكن الامر الاكثر حيوية في هذه الاشكالية، هو مدى توفر الشروط والضمانات اللازمة لافساح المجال لمن سيحظى بثقة الشعب في هذه الاستحقاقات؟ وهل يمكن أن يشكل التحالف بين بعض المكونات السياسية، فرصة تاريخية للانكباب على معالجة المعضلات الاجتماعية التي يعاني منها المغرب، وعلى رأسها المنظومة التعليمية؟
المشروع المجتمعي لا يمكن ان يتبلور في بنية غير ديموقراطية وتسلطية ، تغيب فيها قيم المحاسبة والمسؤولية ، ولهذا فمن بين الشروط الاساسية لبناء هكذا مشروع ، هو توفر أرضية ديموقراطية وشفافة وتداول سلمي حول السلطة ، وقواعد لعب معروفة ، ووضوح في الرؤيا . تسمح للاحزاب والهيئات والمؤسسات المجتمعية من تقديم مشاريعها للمواطن ، وكسب ثقته عن طريق المشروعية الانتخابية .
ولهذا فإننا نعتقد أن مباشرة الاصلاح التربوي ، لا ينفصل البته عن الاصلاح في باقي القطاعات ، وهذا لن يتاتى إلا بفرز ديمقراطي يتيح سلطة القرار لحكومة منتخبة ومسؤولة امام المواطنين.
ماهي أهم القضايا التي يمكن التركيز عليها في المسألة التربوية ؟ وكيف يمكن انقاذ المغرب من وقع أزمة حقيقية في هذا المجال الحيوي والحساس ؟
لا أدعي الاجابة عن هكذا إشكالية كبيرة ، لكني حسبي أن أثير النقاش العام والمفتوح مع كل الحساسيات والفاعلين والمهتمين .
أعتقد أن قراءة للوضع التعليمي ببلادنا ، تنبئ أن المدرسة المغربية تعاني من أزمة ثقة كبيرة، ومن حالة احباط حضاري عام ، وذلك لغياب مشروع مجتمعي ، ولهيمنة نخب متسلطة ، لا تمثل الشعب ولم تفرز من صناديق الاقتراع ، ولا يعرفها المجتمع .
ولهذا فمرحلة إعادة الثقة في المؤسسة التعليمية العمومية ، يعد مدخلا لردم الهوة بين المجتمع والمدرسة ، فلا نجاح لتجربة تعليمية كيفما كانت إذا لم ينخرط المجتمع بكل فئاته وهيئاته وفاعليه في تطوير المدرسة . وفي هذا السياق ، فإن الاهتمام بكل الفاعلين والمتدخلين في العملية التعليمية، مسالة ذات أولية قصوى، فالرهان هو توفير الاجواء المساعدة على الدمج الفعلي لكل الطاقات،وأكثر من ذلك وجب تقديس المرفق العمومي التعليمي وتقديم خدمات للمواطنين،(التلاميذ، والطلبة) بروح من التفاني ونكران الذات.ولهذا فإن انخراط المجتمع المدني في دعم هذه المسيرة ، يعد في نظرنا، خطوة متقدمة لتقديم وساطة اجتماعية ذات قيمة عالية.
ويمكننا ان نذكر بمثال شاهد على ذلك من الولايات المتحدة الامريكية ، حيث نجاح بعض جامعاتها ك"هارفرد" لم يكن ليتحقق إلا" بالوقفيات " "endowments »" ، والتي نعلم أنها تاتي من هبات المحسنين ، ويبقى دور القطاع الخاص حاسم في عملية نجاح العملية التعليمية ، من خلال المشاركة في وضع الاستراتيحيات والاحتياجات ،وكذا في دعم متطلبات البحث العلمي ، بجانب الدولة .
من جهة اخرى ، يشكل البعد اللغوي والهوياتي ، أهمية خاصة في هذه الازمة ، ذلك ان التذبذب الحاصل في مسألة اللغة العربية ،وبجانبها اللغات الاجنبية ، وهيمنة الفرنسية على سوق الاقتصاد والاعمال والاعلام ، أحدث شرخا عميقا، ليس في الجانب اللغوي ، بل تعداه إلى شرخ هوياتي وإلى تخلف تنموي بين .
فكل الدراسات العلمية التي كشفت العلاقة الوطيدة بين الاقلاع التكنولوجي والاقتصادي ولغات التدريس ، تتحدث أن اتقان لغة الام ولغة أجنبية واحدة كاف لاحداث هذه النقلة .والحاصل أننا في المغرب لازلنا بعد أزيد من 50 سنة من الاستعمار نجتر هذه الازدواجية غير المتكافئة ، ولا زلنا مرتهنين إلى لغة تفقد يوما عن يوم مواقعها ،" ولعل الضرر الحاصل لنا كأمة من جراء هذه العملية ، لا يقل خطورة عن الضرر الذي تعرضت له شعوب وبلدان أفريقيا وأسيا خلال القرن 19 ، نتيجة جهلها بالمستجدات العلمية والتكنولوجية التي تتحقق في اماكن أخرى من العالم "، خصوصا بعد التفوق اللغوي الانجليزي في هذه الميادين .
اما ثالث القضايا التي يمكن إثارتها في هذا المجال ، هو مسألة الحكامة التربوية ، والتي يعاني من ضعفها ، نظامنا التعليمي بشكل بين . والحكامة ليست مسألة قوانين ومذكرات من أصعب التحديات التي تواجه جل المجتمعات في تحقيقها لاهدافها وغاياتها ، ولعل اهم مسألة في هذه الثقافة ، هو جدلية الواجب والحقوق ، فقد تضخم بشكل كبير في مجتمعنا المغربي ثقافة الحقوق اكثر من ثقافة الواجب ، والنهوض الحضاري لا يستقيم بتغليب جانب على آخر .
ورابع القضايا، هو توحيد المدرسة المغربية، سواء منها العمومية أو الخاصة، وذلك بإقرار مبدأ تكافؤ الفرص وتمتيع جميع المتعلمين بتكوين ذي جودة عالية، وردم كل التمايزات التي تعززت في السنوات الاخيرة، وخلقت مجتمعا يسير بسرعتين غير متكافئتين.
ختاما أعتقد أن المغرب دخل مرحلة جديدة ، برهانات جديدة وتطلعات كبيرة ، سواء من طرف المواطنين أو مختلف الفاعلين والحساسيات ، ولهذا فالمرحلة تقتضي تعبئة شاملة لكل مكونات المجتمع ، وذلك في إبداع الحلول الملائمة والخلاقة والفعالة ، ولكن من منظور شمولي وليس تجزيء ، وهذا لن يتاتي إلا باجراء انتخابات حرة ونزيهة تفرز حكومة قوية ومؤهلة وذات مشروعية انتخابية ، ومسؤولة أمام المواطنين.
0 التعليقات :
إرسال تعليق